فصل: قال في روح البيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {وإذ قلتم يا موسى} يريد السبعين الذين اختارهم موسى، واختلف في وقت اختيارهم.
فحكى أكثر المفسرين أن ذلك بعد عبادة العجل، اختارهم ليستغفروا لبني إسرائيل.
وحكى النقاش وغيره أنه اختارهم حين خرج من البحر وطلب بالميعاد، والأول أصح، وقصة السبعين أن موسى صلى الله عليه وسلم لما رجع من تكليم الله ووجد العجل قد عبد قالت له طائفة ممن لم يعبد العجل: نحن لم نكفر ونحن أصحابك، ولكن أسمعنا كلام ربك، فأوحى الله إليه أن اختر منها سبعين شيخًا، فلم يجد إلاّ ستين، فأوحى الله إليه أن اختر من الشباب عشرة، ففعل، فأصبحوا شيوخًا، وكان قد اختار ستة من كل سبط فزادوا اثنين على السبعين، فتشاحوا فيمن يتأخر، فأوحى الله إليه أن من تأخر له مثل أجر من مضى، فتأخر يوشع بن نون وطالوت بن يوقنا وذهب موسى عليه السلام بالسبعين بعد أن أمرهم أن يتجنبوا النساء ثلاثًا ويغتسلوا في اليوم الثالث، واستخلف هارون على قومه، ومضى حتى أتى الجبل، فألقي عليهم الغمام.
قال النقاش وغيره: غشيتهم سحابة وحيل بينهم موسى بالنور فوقعوا سجودًا.
قال السدي وغيره: وسمعوا كلام الله يأمر وينهى، فلم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعبر لهم، ففعل، فلما فرغ وخرجوا بدلت منهم طائفة ما سمعت من كلام الله فذلك قوله تعالى: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه} [البقرة: 75]، واضطرب إيمانهم وامتحنهم الله بذلك فقالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} ولم يطلبوا من الرؤية محالًا، أما إنه عند أهل السنة ممتنع في الدنيا من طريق السمع، فأخذتهم حينئذ الصاعقة فاحترقوا وماتوا موت همود يعتبر به الغير.
وقال قتادة: ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ردوا لاستيفاء آجالهم، فحين حصلوا في ذلك الهمود جعل موسى يناشد ربه فيهم ويقول: أي رب، كيف أرجع إلى بني إسرائلي دونهم فيهلكون ولا يؤمنون بي أبدًا، وقد خرجوا معي وهم الاخيار.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يعني وهم بحال الخير وقت الخروج.
وقال قوم: بل ظن موسى عليه السلام أن السبعين إنما عوقبوا بسبب عبادة العجل، فذلك قوله: {أتهلكنا} يعني السبعين {بما فعل السفهاء منا} [الأعراف: 155] يعني عبدة العجل.
وقال ابن فورك: يحتمل أن تكون معاقبة السبعين لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه، بقولهم لموسى {أرنا} وليس وذلك من مقدور موسى صلى الله عليه وسلم، و{جهرة} مصدر في موضع الحال، والأظهر أنها من الضمير في {نرى}، وقيل من الضمير في {نؤمن}، وقيل من الضمير في {قلتم}، والجهرة العلانية، ومنه الجهر ضد السر، وجهر الرجل الأمر كشفه.
وقرأ سهل بن شعيب وحميد بن قيس: {جهَرة} بفتح الهاء، وهي لغة مسموعة عند البصريين فيما فيه حرف الحلق ساكنًا قد انفتح ما قبله، والكوفيون يجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون {جهرة} جمع جاهر، أي حتى نرى كاشفين هذا الأمر.
وقرأ عمر وعلي رضي الله عنهما: {فأخذتكم الصعقة}، ومضى في صدر السورة معنى {الصاعقة}، والصعقة ما يحدث بالإنسان عند الصاعقة.
وتنظرون معناه إلى حالكم.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: حتى أحالهم العذاب وأزال نظرهم. اهـ.

.قال ابن كثير:

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.
يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانًا، مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريج، قال ابن عباس في هذه الآية: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} قال: علانية.
وكذا قال إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق، عن أبي الحويرث، عن ابن عباس، أنه قال في قول الله تعالى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} أي علانية، أي حتى نرى الله.
وقال قتادة، والربيع بن أنس: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} أي عيانا.
وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه. قال: فسمعوا كلاما، فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} قال: فسمعوا صوتًا فصعقوا، يقول: ماتوا.
وقال مروان بن الحكم، فيما خطب به على منبر مكة: الصاعقة: صيحة من السماء.
وقال السدي في قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} الصاعقة: نار.
وقال عروة بن رويم في قوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} قال: فصعق بعضهم وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء.
وقال السدي: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله، ويقول: رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]. فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجلٌ رجلٌ، ينظر بعضهم إلى بعض: كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم. وكذا قال قتادة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحَرّق العجل وذَرّاه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلا الخَيِّرَ فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقَّتَه له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعِلْم، فقال له السبعون، فيما ذكر لي، حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فأخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعًا. وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف: 155] قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاك. اخترتُ منهم سبعين رجلا الخَيِّر فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل، ويطلب إليه حتى ردّ إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا؛ إلا أن يقتلوا أنفسهم.
هذا سياق محمد بن إسحاق.
وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موسى، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عَينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. وساق البقية.
وهذا السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} والمراد السبعون المختارون منهم، ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب فخر الدين الرازي في تفسيره حين حكى في قصة هؤلاء السبعين: أنهم بعد إحيائهم قالوا: يا موسى، إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك، فادعه أن يجعلنا أنبياء، فدعا بذلك فأجاب الله دعوته، وهذا غريب جدا، إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون، وقد غلط أهل الكتاب أيضًا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل، فإن موسى الكليم، عليه السلام، قد سأل ذلك فمنع منه فكيف يناله هؤلاء السبعون؟
القول الثاني في الآية قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: قال لهم موسى- لما رجع من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى! وقرأ قول الله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. اهـ.

.قال في روح البيان:

ليس في الآية دليل على نفي الرؤية بل فيها إثباتها وذلك أن موسى عليه السلام لما سأله السبعون لم ينههم عن ذلك وكذلك سأل هو ربه الرؤية فلم ينهه عن ذلك بل قال: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه فَسَوْفَ تَرَانِى} [الأعراف: 143] وهذا تعليق بما يتصور.
قال بعض العلماء الحكماء الحكمة في أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وجوه:
الأول: أن الدنيا دار أعدائه لأن الدنيا جنة الكافر.
الثاني: لو رآه المؤمن لقال الكافر لو رأيته لعبدته ولو رأوه جميعًا لم يكن لأحدهما مزية على الآخر.
الثالث: أن المحبة على غيب ليست كالمحبة على عين.
الرابع: أن الدنيا محل المعيشة ولو رآه الخلق لاشتغلوا عن معائشهم فتعطلت.
الخامس: أنه جعلها بالبصيرة دون البصر ليرى الملائكة صفاء قلوب المؤمنين.
السادس: ليقدر قدرها إذ كل ممنوع عزيز.
السابع: إنما منعها رحمة بالعباد لما جبلوا عليه في هذه الدار من الغيرة إذ لو رآه أحد تصدع قلبه من رؤية غيره إياه كما تصدع الجبل غيرة من أن يراه موسى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}.
التعرض بمطالعة الذات على غير نعمة إلهية إفصاحٌ بِتَرْكِ الحرمة، وذلك من أمارات البعد والشقوة.
وإثبات نعت التولي بمكاشفات العزة مقرونًا بملاطفات القربة من علامات الوصلة ودلالات السعادة.
فلا جَرَمَ لما أطلقوا لسان الجهل بتقوية ترك الحشمة أخذتهم الرجفة والصعقة. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا موسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ}.
أي لن ندوم على الإيمان لك فليس هو ردة، لأنّه من قول السبعين، وقد كانوا آمنوا به، وفيه دليل على أن رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة جائزة عقلا لطلبهم ذلك.
فإن قلت: لم يقم الدليل على صحة طلبهم، فلعلهم آخطؤوا في الطلب؟
قلنا: نص العميدي في الجدل وغيره إذا وقع الشك في شيء إنما يحمل على الأمر الغالب فيه، والغالب في هؤلاء أنهم ما يطلبون إلا الأمر الممكن عقلا، فأخبر الشارع أنه غير واقع.
قال ابن عرفة: واستشكل القرطبي تكليفهم بعد إحيائهم من الصعق لسقوط التكليف بالصعق وإذا سقط لا يرجع.
قال ابن عرفة: وعندي لا إشكال فيه وهو كمن أحرم بالحج وعنده طائر في قفص، فإنه مكلف بإرساله، فإذا أزال إحرامه عادت الإباحة، كما كانت أول مرة.
وكذلك النائم حالة نومه غير مكلف فإذا استيقيظ عاد التكليف.
قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}.
قال ابن عرفة: حال من الضمير المفعول في {أَخَذَتْكُم} فهي إشارة إلى أن الصّاعقة نالتهم على غفلة فصادفتهم ثابتين في النظر والأبصار والعقول، ولو علموا بها قبل ذلك لأذهب الوهم عنهم أبصَارَهُم وبصائرهم فلم تصادف عندهم إثباتا بوجه، والمراد بذلك أو أجزاء الصاعقة. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{وإذ قلتم يا موسى}: هذه محاورة بني إسرائيل لموسى، وذلك بعد محاورته لهم في الآية قبل هذا.
والضمير في قلتم قيل للسبعين المختارين، قاله ابن مسعود وقتادة، وذكر في اختيار السبعين كيفية ستأتي، إن شاء الله تعالى، في مكانها في الأعراف.
وقيل: الضمير لسائر بني إسرائيل إلا من عصمه الله، قاله ابن زيد.
وقيل: الذين انفردوا مع هارون ولم يعبدوا العجل.
وقال بعض من جمع في التفسير: تظافرت أقوال أئمة التفسير على أن الذين أصابتهم الصاعقة هم السبعون رجلًا الذين اختارهم موسى ومضى بهم لميقات ربه ومناجاته، وما ذكر لا يمكن مع ذكر الاختلاف في قوله: {وإذ قلتم}، لأن الظاهر أن القائل ذلك هم الذين أخذتهم الصاعقة، إلا إن كان ذلك من تلوين الخطاب، وهو هنا بعيد.
وفي نداء بني إسرائيل لنبيهم باسمه سوء أدب منهم معه، إذ لم يقولوا: يا نبي الله، أو يا رسول الله، أو يا كليم الله، أو غير ذلك من الألفاظ التي تشعر بصفات التعظيم، وهي كانت عادتهم معه: يا موسى لن نصبر على طعام واحد، يا موسى اجعل لنا إلهًا، يا موسى ادع لنا ربك.
وقد قال الله لهذه الأمّة لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا.
{لن نؤمن لك}: قيل معناه: لن نصدّقك فيما جئت به من التوراة، ولم يريدوا نفي الإيمان به بدليل قولهم لك، ولم يقولوا بك نحو: {وما أنت بمؤمن لنا}، أي بمصدّق.
وقيل معنا: لن نقرّ لك، فعبر عن الإقرار بالإيمان وعدّاه باللام، وقد جاء {لتؤمنن به ولتنصرنه} قَال: {أأقرتم وأخذتم على ذلكم إصري} قالوا: أقررنا، فيكون المعنى: لن نقرّ لك بأن التوراة من عند الله.
وقيل: يجوز أن تكون اللام للعلة، أي لن نؤمن لأجل قولك بالتوراة.
وقيل: يجوز أن يراد نفي الكمال، أي لا يكمل إيماننا لك، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأهله والناس أجمعين».
{حتى نرى الله جهرة} حتى: هنا حرف غاية، أخبروا بنفي إيمانهم مستصحبًا إلى هذه الغاية ومفهومها أنهم إذا رأوا الله جهرة آمنوا، والرؤية هنا: هي البصرية، وهي التي لا حجاب دونها ولا ساتر، وانتصاب جهرة على أنه مصدر مؤكد مزيل لاحتمال الرّؤية أن تكون منامًا أو علمًا بالقلب.
والمعنى حتى نرى الله عيانًا، وهو مصدر من قولك: جهر بالقراءة وبالدعاء، أي أعلن بها فأريد بها نوع من الرّؤية، فانتصابها على حدّ قولهم: قعد القرفصاء، وفي: نصب هذا النوع خلاف مذكور في النحو.
والأصح أن يكون منصوبًا بالفعل السابق يعدي إلى النوع، كما تعدّى إلى لفظ المصدر الملاقي مع الفعل في الاشتقاق، وقيل انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال على تقدير الحذف، أي ذوي جهرة، أو على معنى جاهرين بالرؤية لا على طريق المبالغة نحو: رجل صوم، لأن المبالغة لا تراد هنا.
فعلى القول الأوّل تكون الجهرة من صفات الرّؤية، وعلى هذا القول تكون من صفات الرائين، وثم قول ثالث، وهو أن يكون راجعًا لمعنى القول، أو القائلين، فيكون المعنى: وإذ قلتم كذا قولًا جهرة أو جاهرين بذلك القول، لم يسروه ولم يتكاتموا به، بل صرحوا به وجهروا بأنهم أخبروا بانتفاء الإيمان مغيابًا لرؤية.
والقول بأن الجهرة راجع لمعنى القول مروي عن ابن عباس وأبي عبيدة، والظاهر تعلقه بالرؤية لا بالقول، وهو الذي يقتضيه التركيب الفصيح.
وقرأ ابن عباس وسهل بن شعيب وحميد بن قيس: جهرة، بفتح الهاء، وتحتمل هذه القراءة وجهين: أحدهما: أن يكون جهرة مصدرًا كالغلبة، فتكون معناها ومعنى جهرة المسكنّة الهاء سواء، ويجري فيها من الإعراب الوجوه التي سبقت في جهرة.
والثاني: أن يكون جمعًا لجاهر، كما تقول: فاسق وفسقة، فيكون انتصابه على الحال، أي جاهرين بالرؤية.
قال الزمخشري: وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه السلام رادّهم، وعرّفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال، وأن من استجاز على الله الرؤية، فقد جعله من جملة الإقسام أو الإعراض، فرادوه بعد بيان الحجة ووضوح البرهان، ولجوا فكانوا في الكفر كعبدة العجل، فسلط الله عليهم الصاعقة، كما سلط على أولئك القتل، تسوية بين الكفرين، ودلالة على عظمها بعظم المحنة. اهـ كلامه.
وهو مصرّح باستحالة رؤية الله تعال بالأبصار.
وهذه المسألة فيها خلاف بين المسلمين.
ذهبت القدرية والمعتزلة والنجارية والجهمية ومن شاركهم من الخوارج إلى استحالة ذلك في حق الباري سبحانه وتعالى، وذهب أكثر المسلمين إلى إثبات الرؤية.
فقال الكرامية: يرى في جهة فوق وله تحت، ويرى جسمًا، وقالت المشبهة: يرى على صورة، وقال أهل السنة: لا مقابلًا، ولا محاذيًا، ولا متمكنًا، ولا متحيزًا، ولا متلونًا، ولا على صورة ولا هيئة، ولا على اجتماع وجسمية، بل يراه المؤمنون، يعلمون أنه بخلاف المخلوقات كما علموه كذلك قبل.
وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة الثابتة في رؤية الله تعالى، فوجب المصير إليها.
وهذه المسألة من أصعب مسائل أصول الدين، وقد رأيت لأبي جعفر الطوسي من فضلاء الإمامية فيها مجلدة كبيرة، وليس في الآية ما يدل على ما ذهب إليه الزمخشري من استحالة الرؤية، لكن عادته تحميل الألفاظ ما لا تدل عليه، خصوصًا ما يجر إلى مذهبه الإعتزالي، نعوذ بالله من العصبية فيما لا ينبغي.
وكذلك اختلفوا في رؤية الحق نفسه، فذهب أكثر المعتزلة إلى أنه لا يرى نفسه، وذهبت طائفة منهم إلى أنه يرى نفسه، وذهب الكعبي إلى أنه لا يرى نفسه ولا غيره، وهذا مذهب النجار، وكل ذلك مذكور في علم أصول الدين.
{فأخذتكم الصاعقة}: أي استولت عليكم وأحاطت بكم.
وأصل الأخذ: القبض باليد.
والصاعقة هنا: هل هي نار من السماء أحرقتهم، أو الموت، أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا، أو الفزع فدام حتى ماتوا، أو غشي عليهم، أو العذاب الذي يموتون منه، جو صيحة سماوية؟ أقوال، أصحها: أنها سبب الموت، لا الموت، وإن كانوا قد اختلفوا في السبب، قاله المحققون لقوله تعالى: {فلما أخذتهم الرّجفة} وأجمع المفسرون على أن المدّة من الموت أو الصعق كانت يومًا وليلة.
وقيل: أصاب موسى ما أصابها، وقيل صعق ولم يمت، قالوا: وهو الصحيح، لأنه جاء، فلما أفاق في حق موسى وجاء، ثم بعثناكم في حقهم، وأكثر استعماله البعث في القرآن بعث الأموات.
وقيل: غشي عليهم كهو ولم يموتوا، والصعق يطلق على غير الموت، وقال جرير:
وهل كان الفرزدق غير قرد ** أصابته الصواعق فاستدارا

والظاهر أن سبب أخذ الصاعقة إياهم قولهم: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}، إذ لم يقولوا ذلك ويسألوا الرؤية إلا على سبيل التعنت، وقيل: سبب أخذ الصعقة إياهم هو غير هذا القول من كفرهم بموسى، أو تكذيبهم إياه لما جاءهم بالتوراة أو عبادة العجل.
وقرأ عمرو على الصعقة، واستعظم سؤال الرؤية حيث وقع، لأن رؤيته لا تحصل إلا في الآخرة، فطلبها في الدنيا هو مستنكر، أو لأن حكم الله أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يراه، فكان طلبها طلبًا لإزالة التكليف، أو لأنه لما دلت الدلائل على صدق المدّعي كان طلب الدلائل الزائدة تعنتًا ولأن في منع الرؤية في الدنيا ضربًا من المصلحة المهمة للخلق، فلذلك استنكر.
{وأنتم تنظرون}: جملة حالية، ومتعلق النظر: أخذ الصعقة إياكم، أي وأنتم تنظرون إلى ما حل بكم منها أو بعضكم إلى بعض كيف يخرّ ميتًا، أو إلى الأحياء، أو تعلمون أنها تأخذكم.
فعبر بالنظر عن العلم، أو إلى آثار الصاعقة في أجسامكم بعد أن بعثتم، أو ينظر كل منكم إلى إحياء نفسه، كما وقع في قصة العُزير، قالوا: حي عضوًا بعد عضو، أو إلى أوائل ما كان ينزل من الصاعقة قبل الموت، أو أنتم يقابل بعضكم بعضًا من قول العرب دور آل فلان تتراءى، أي يقابل بعضها بعضًا، ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى {وأنتم تنظرون} إجابة السؤال في حصول الرؤية لهم، لكان وجهًا من قولهم: نظرت الرجل، أي انتظرته، كما قال الشاعر:
فإنكما إن تنظراني ساعة ** من الدهر تنفعني لدى أم جندب

لكن هذا الوجه ليس بمنقول، فلا أجسر على القول به، وإن كان اللفظ يحتمله.
وقد عدّ صاحب المنتخب هذا إنعامًا سادسًا، وذكر في كونه إنعامًا وجوهًا: منها ما يتعلق بغير بني إسرائيل، ومنها ما يتعلق بهم، والمقصود ذكر ما يتعلق بكون ذلك إنعامًا، وهو أن إحياءهم لأن يتوبوا عن التعنت، ولأن يتخلصوا من أليم العقاب ويفوزوا بجزيل الثواب من أعظم النعم، ولا تدل هذه الآية على أن قولهم هذا بعد أن كلف عبدة العجل بالقتل ولا قبله.
وقد قيل بكل من القولين، لأن هذه الجمل معطوفة بالواو، والواو لا تدل بوضعها على الترتيب الزماني.
قال بعضهم: لما أحلهم الله محل مناجاته، وأسمعهم لذيذ خطابه، اشرأبّت نفوسهم للفخر وعلوّ المنزلة، فعاملهم الله بنقيض ما حصل في أنفسهم بالصعقة التي هي خضوع وتذلل تأديبًا لهم وعبرة لغيرهم، {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}. اهـ.